لماذا هذا الاستهداف للغة العربية في الأحواز؟ – الجزء الأول
أحوازنا | المكتب الإعلامي لحركة النضال العربي لتحرير الأحواز
اللغة تعتبر أداة أو بالأحرى إحدى أدوات الفكر الرئيسية و إذا همشت اللغة تهمش الفكر معها و إذا همش الفكر حينها تتزلزل معه هوية الأفراد والجماعات و بالنهاية ستضيع الشعوب، ناهيك عن دور اللغة في الأبعاد الأخرى للهوية. و من هذا المنطلق استهداف لغة أي شعب هي في الحقيقة استهداف فكره و ثقافته و هويته و وجوده.
يوجد تصور خاطئ بين الناس و هو أن كل اللغات بإمكانها نقل الواقع كما هو و بشكل لا يختلف كثيرا من حيث المضمون عن اللغة المعنية المرتبطة ببيئة ذلك الواقع، لذا يمكننا أن نترجم أو ننقل أي موضوع من لغة إلى لغة أخرى كما هو دون نقصان. بينما هذا الأمر مناف للحقيقة، فلا يمكن تطبيق هذا التصور و كل الدراسات تؤكد أن اللغات المختلفة لديها تعابير مختلفة لموضوع واحد. و من هنا طرح ادوارد سايبر(Edward Sapir) و تلميذه بنجامين ورف (Benjamin worf) فرضية نسبية اللغة(Linguistic relativity, hypothesis ) و التي تقول إن الإنسان ينظر إلى العالم و يفسره من خلال مصطلحات و قواعد لغته. و توجد أسباب مختلفة لهذه الحالة و أهمها إن كل لغة تنشأ و تتطور في بيئتها الخاصة في مراحل و ظروف تاريخية خاصة بها و تنتهي بإنتاج مفاهيم و مصطلحات تختلف عن اللغات الأخرى من حيث المضمون و دائرة المعنى. مثلا “الخيل” كانت تلعب دورا رئيسيا في حياة العرب و تربيتها و امتلاكها كان يعتبر من أسباب الفخر و الشرف لذا نجد أسماء و مصطلحات أكثر للخيل في اللغة العربية مقارنة باللغات الأخرى .
لذا يجب أن لا ينظر للغة مجرد وسيلة لنقل الوقائع و الحقائق و يجب الوقوف عند الفوارق بين اللغات في العالم. لأن اللغات ليست رموزا و كلمات مجردة بل أنها موجودات حية و متفاعلة مع محيطها. لذا بعيدا عن لغته يفقد الشعب حيويته و تفاعله مع العالم، لذا في بحوث الهوية في علم الاجتماع، للغة مكانة رئيسية في هوية الشعوب و هذا واضح في تعاريف الهوية المختلفة، حيث أن في كل هذه التعاريف دور اللغة ثابتا و مهما.
و تكسب اللغة أهميتها بحضورها في كل مفاصل حياة الشعوب، في الثقافة و العلم و…
في الثقافة أيضا اللغة هي الأرضية التي تتأسس عليها الثقافة. و كما هو معروف أن الثقافة تشمل جميع المنتجات المادية (material culture ) كالآلات الموسيقية و الملابس التقليدية و… و الإنتاج المعنوي (nonmaterial culture ) كألافكار و العقائد و الآداب و التقاليد… و بدون لغة خاصة لأي شعب كيف يمكن الكلام عن الهوية و الأفكار والآداب و عن الثقافة الخاصة به،و في الحقيقة أن زوال ثقافته ستكون مع زوال لغته.
و أما العلم فأنه أيضا متأثر باللغة، و إننا نعرف أن الفكر هو الأساس الذي ينبني عليه العلم و من خلاله يتم معرفة العلم و التواصل معه، فإذا قبلنا أن اللغة هي أداة الفكر، فتلقائيا سيستشري الجهل و الانحطاط بين أفراد أي شعب يتكلم بلغة منهارة أو تابعة .
و بعد هذه المقدمة القصيرة نحاول أن نكشف تأثيرات سياسة التفريس المنتهجة من قبل الاحتلال الفارسي على اللغة العربية في الأحواز و التي بدأت مع بداية الاحتلال عام 1925 و مستمرة حتى الساعة. فبدايتها كانت مع اتخاذ اللغة الفارسية، لغة رسمية في جغرافية ما تسمى بإيران (التي شكلها رضا خان بالقوة و بمساعدة القوى الكبرى آنذاك) رغم أنها لغة ضعيفة لا تصلح للإنتاج العلمي و الفكري، و إنتاجها الوحيد هو بعض الأشعار و اللطميات في شهر عاشوراء، و أنها كلغة، خالية من الفكر و المنطق. و حتى هذا الكم القليل من الإنتاج كان مستحيلا دون الدعم الذي قدمته اللغة العربية لها.
إعلان اللغة الفارسية كلغة رسمية من قبل الاحتلال الفارسي كان يعني أن اللغات الأخرى الموجودة في ما يعرف بجغرافية إيران هي لغات غير قانونية و هذا الأمر كان يصرح به علانية في العهد البهلوي بحجج مختلفة و في فترة الملالي توبع بشكل مختلف و في الحالتين الهدف واحد و هو ربط كل مرافق حياة الشعوب المحتلة باللغة الفارسية، و بهذه الطريقة تمحى هويتها في بوتقة التفريس و سيتم تشكيل دولة ذات هوية واحدة تماشيا مع ما تطرحه إيديولوجيتهم القومية المبنية على نفي الأخر.
استخدم الفرس آليات مختلفة لتطبيق هذا المشروع أي التفريس على أرض الواقع(جانب اللغة) و أهمها:
أولا: استخدام اللغة الفارسية كلغة وحيدة في الدراسة دون منازع. أصبح الطريق الوحيد للحصول على التعليم هو الدراسة باللغة الفارسية و الذي كان يترتب عليه الكثير من المشاكل لأبناء الشعوب غير الفارسية بشكل عام و أبناء الأحواز بشكل خاص. ففي السنين الأولى للاحتلال كانت الكثير من العوائل تمنع أبناءها من الذهاب إلى المدارس معتبرين أنه رضوخ لسياسة التفريس و الاحتلال، و من جهة أخرى كان صعبا جدا على الأطفال التكيف مع هذه اللغة الغريبة عنهم، لذا تتفشى في الأحواز ظاهرة التسرب المدرسي و نسبة عالية جدا من الطلاب كانت تترك الدراسة و من يبقى يصبح ضحية التفريس و يحكم عليه أن يعيش في عالمين متناقضين بسبب وجود لغتين متناقضتين في حياته، فكل لغة تعطيه تصور خاص بها عن العالم والأشياء و الأخلاق و…… و طبعا المعركة هنا غير متكافئة. فهي لصالح لغة المحتل(الفارسية) فهي الطاغية خاصة في الجوانب العلمية في حياة الفرد الأحوازي. و هذه الحالة هي السبب الرئيس وراء مشكلة الأمية الموجودة وبنسبة عالية بين الأحوازيين.
ثانيا: محاولات فرض اللغة الفارسية كلغة ثقافية في الأحواز أو تهميش الثقافة الأحوازية من خلال فرض البديل الفارسي.
في السنين الأولى للاحتلال كانت هذه السياسة ضعيفة مقارنة بالوضع الراهن بسبب عدم توفر آلياتها، لكن فيما بعد و مع توفر آلياتها كالإذاعة و وسائل الإعلام الأخرى أخذت طابعا أكثر دقة و برمجة. و مع منع استخدام اللغة العربية و جعل العلوم والثقافة حكرا فقط على اللغة الفارسية و جعلها السبيل الوحيد للتواصل الثقافي مع العالم و حتى بين الأحوازيين أنفسهم فقط. ومن خلال الترويج و العمل على اللغة الفارسية تسببت هذه اللغة في الحقيقة في وقوع أكثر وأشد الضربات للأحوازيين . حيث نرى اليوم أن الفجوة تزداد بين الجيل الجديد مع الجيل القديم و مع ثقافته و إرثه الحضاري. و ما يزيد الطين بلة هي سياسة التفريس المتبعة في التعليم و المجالات الأخرى هي السبب في عدم وجود ثقافة مكتوبة لدينا و إن وجدت فهي ضعيفة جدا.
و لتوضيح الفكرة أكثر، فلنتصور شابا أحوازيا يولد و ينضج في المدينة و عنده أقارب في القرية، فعندما يزورهم في القرية يرى نفسه في عالم غريب عنه(جزء من التناقض الذي أسلفنا ذكره) لا يفهم الأمثال و لا أسماء الأشياء و إن عرفها تكون باللغة الفارسية( مثلا: المسحاة= بيل)، و حتى يواجه استهزاء من أقاربه القرويين وهذا التصور يحدث دائما في الأحواز على أرض الواقع و السبب يعود إلى سياسة التفريس التي تكون أقل حدة في المناطق الريفية ولأسباب أغلبها لوجستية حيث لم تتمكن الدولة الفارسية من الوصول إلى القرى بشكل يسير .
ثالثا: فرض اللغة الفارسية بشكل كامل على كل المرافق الحكومية:
منذ اليوم الأول للاحتلال أصبحت اللغة الفارسية اللغة الوحيدة المستعملة في كل الدوائر الحكومية(الاحتلال) و أصبح هذا الجانب أيضا من حياة الأحوازيين بعد الدراسة و الثقافة مرتبطا باللغة الفارسية. و في ظل الظروف الجديدة و خاصة مع تطور الحياة و مع كثرة المعاملات الورقية في الحياة اليومية للأحوازيين أصبح أمر تعلم اللغة الفارسية لا مفر منه إضافة إلى ذلك أصبح كل ما له صلة و ارتباط في هذه اللغة(كلمات و مصطلحات) يستعمله الأحوازي باللغة الفارسية مضطرا. و إضافة لتفاقم أزمة التفريس، حالة التمييز الحاكمة في الدوائر الحكومية أيضا فرضت شروطا جديدة على الأحوازي حيث أصبح من الصعب عليه الحصول على قوته اليومي. و يعد استخدام اللغة الفارسية في الدوائر الحكومية اليوم أحد أكبر أسباب الفقر المستشري في الأحواز حيث لا يمكن للعربي حتى متابعة حقوقه القليلة المعترف بها في ظل الاحتلال لأنه يعجز عن التعبير بها عما يعوزه.
رابعا: تهجير أعداد كبيرة من المستوطنين إلى المدن و القرى الأحوازية:
هجرة المستوطنين الفرس إلى الأحواز إضافة إلى تأثيراتها السلبية على الاقتصاد والمرافق الحيوية الأخرى،لها تأثيرها الخطير على اللغة العربية، حيث أن التركيبة الجديدة للسكان(الديموغرافية) تفرض علاقات اجتماعية و اقتصادية قاسية. و بطبيعة الحال تفرض هذه الهجرة اللغة الفارسية معها فتزداد دائرة استخدامها بين الأحوازيين.
أخيرا إذا أردنا أن نقيم نتائج سياسة التفريس في ما يخص اللغة فأنها رغم بعض التأثيرات لكنها فشلت فشلا ذريعا. و الدليل أنه و بعد أكثر من ثمانين سنة لا تزال اللغة العربية حية في الأحواز و هي اللغة الوحيدة المستعملة في كل مكان و زمان و لا يمكن للأحوازي أن يتخلى عنها وصار يتعلق بها يوما بعد يوم. و تزيد نسبة استعمالها مع زيادة نسبة التحدي الذي يبديه الشعب العربي الأحوازي النابع عن وعيه القومي و الوطني المتزايد خصوصا في السنوات الأخيرة بسبب تطور تكنولوجيا المعلومات التي جلبت معها الإنترنت و الفضائيات و أصبحت نافذة للأحوازي من زنزانته الكبيرة التي صنعها له المحتل، لتكون هذه التكنولوجيا وسيلة سهلة له للتواصل الثقافي و الخ.. مع محيطه العربي و العالمي . و الشعب العربي الأحوازي بهذه الطريقة أثبت للمحتل أن اللغة الرسمية الوحيدة له، لغته، لغة الضاد.
يتبع…
9-1-2008